قبة الصخرة المشرفة وأهميتها في العمارة الإسلامية
افتتحت في العاصمة الأردنية ندوة «القدس 5000 عام» وحضرها مئات الشخصيات السياسية والدينية في العالمين العربي والإسلامي، وقدم المهندس المعماري صفوان خلف التل الأستاذ في الجامعة الأردنية بحثاً تناول قبة الصخرة المشرفة وأهميتها في العمارة الإسلامية، وفي ما يلي أهم ما جاء في البحث:
لا شك أن لدينا أسئلة عديدة لا يمكن حصرها حول مجموعة من الأحداث والتغيرات التي جرت على الساحة الإسلامية خلال القرن السابع الميلادي «الأول الهجري» وإذا ما حاولنا إجابة تلك الأسئلة فإننا نواجه الإجابات تنهال من خلال الاجتهادات والقناعات، ومما يلفت النظر أن مانقشة أحداث التاريخ اكتسبت في كثير من الأحيان أساليب غامضة لم تساعد على كشف الحقيقة وإزالة الغموض، بل نجد أن الإجابات قدأسهمت في خلق أسئلة أخرى وأحياناً في خلق متاعب وهموم أخرى لا حصر لها، فالأمويون انتصروا لمدينة دمشق كعاصمة سياسية لدولتهم، بينما أصبحت مدينة القدس المحطة الدينية التي يشد إليها أبناء بلاد الشام رحالهم، وهكذا أصبحت مدينة دمشق العاصمة السياسية بينما أصبحت القدس المحور الروحي الذي يبارك التوجهات السياسية، إذن لماذا أصر معاوية في عام 661م على اتخاذ دمشق عاصمة له؟ وهل هذا هو اختيار أدبي أم سياسي أم استراتيجي؟
لقد كانت دمشق تمثل مركزاً للثقل العسكري في قلب بلاد الشام من أجل الحفاظ على التوازن الاستراتيجي مع الدولة البيزنطية المندحرة من بلاد الشام، خاصة بعد التغيرات الديموغرافية التي ظهرت خلال ربع قرن من انتصار الإسلامي، وعليه لا بد لدمشق من مواجهة التحديات الكثيرة في الداخل والخارج على حد سواء، وقامت فعلاً بذلك الجهد.
أما مدينة القدس فقد استمرت تحظى بالأمان والاستقرار، ومنذ عام 685م حيث تولى عبد الملك بن مروان الخلافة الأموية تمكن من تحقيق الاستقرار بصورة فعلية، وبدأ العمل في القضايا الجذرية، أهمها إعطاء مدينة القدس مكانتها المشرفة في قلب العالم الإسلامي، فهي قبلة المسلمين الأولى، وهي المكان الذي حدثت فيه معجزة الإسراء والمعراج، وهي المدينة التي دخلها الخليفة عمر بن الخطاب وصلى فيها، وتعهد من خلال الوثيقة العمرية بحمايتها وتحقيق الأمن والرخاء لها.
ومن جهة ثالثة، كانت القدس المدينة التي أعلن فيها معاوية بن أبي سفيان في سنة 661م نفسه خليفة للمسلمين وإعلان قيام الدولة الأموية، ومن جهة أخرى، نجد أن عبد الله بن مروان، الخليفة الأموي الخامس، يعلن نفسه فيها خليفة للمسلمين، ولهذه الاعتبارات الروحية والسياسية كانت القدس هي مرآة المسملين التي تعكس توجهاتهم الروحية والأدبية عبر التاريخ.
لهذا قرر الخليفة عبد الملك بن مروان أن يقيم بناء متميزاً فوق الصخرة المشرفة ليكون أول صرح معماري يقيمه المسلمون في مدينة القدس، وتشير بعض المصادر الإسلامية إلى أن الخليفة قد استعان بأهل الخبرة في مجال البناء، وكلف كلاً من رجاء بن حياة الكندي من مدينة القدس ويزيد بن سلام من بيسان لقيام بهذه المهمة من حيث الإشراف على تنفيذ المخطط الهندسي واعتماد طبيعة الفنون الداخلية، لقد أمر الخليفة أن يرصد خراج مصر طيلة سبع سنوات لاعتماده في حساب المشروع، ولا شك أن الخليفة قد أمر بأن تكون الرعاية الأولى للصخرة المشرفة الواقعة في وسط الحرم الشريف باعتبارها الأكثر قدسية لعلاقتها بصخرة الإسراء والمعراج، فهي صخرة تبرز عن سطح الأرض حوالي متر ونصف المتر، بينما تمتد حوالي 18 متراً طولاً، وتمتد 13 متراً عرضاً، ولهذا كان الهدف الأول هو احتواؤها بشكل هندسي رفيع، ومن خلال دراستنا لمخطط البناء، يتضح لنا أن البناء يمثل صرحاً تذكارياً، يحتوي في وسطه الصخرة المشرفة، وقد تم تنفيذ المشروع على أربع مراحل هندسية هي:
المرحلة الأولى:
رسم دائرة قطرها 20.44 م حول جسم الصخرة البارز فوق سطح الأرض، وتم وضع أربع دعائم على شكل مربع على محيط الدائرة، كما تم وضع ثلاثة أعمدة بين كل دعامة وأخرى، وهكذا يصبح مجموع الأعمادة اثني عشر عموداً وأربع دعائم موزعة بانتظام على محيط الدائرة التي تحيط بالصخرة المشرفة، وتم وصل هذه الأعمدة مع الدعائم بواسطة الأقواس على ارتفاعات واحدة، وبنيت فوق الأقواس حلقة دائرية عريضة تسمى بالعنق أو الإطار ليكون المحيط الذي ترتكز عليه قبتان من الخشب، إحداهما قبة صغيرة داخلية تطل عى الصخرة مباشرة، والأخرى فوق القبة الصغيرة وتطل على ساحة الحرم الشريف، وقد تم فتح 16 نافذة في الإطار الذي يحمل القبة من أجل دخول النور والهواء، وقد ارتفعت القواعد إلى الأعلى حتى تقوم بحمل القبتين.
المرحلة الثانية:
وهي تمثل مجموعة من الدعائم على شكل ثماني يحيط بالقبة المركزية، وقد تم توزيع الدعائم الثماني على زوايا المثمن، كما تم إقامة عمودين بين كل دعامتين، وبهذا يكون مجموع الأعمادة 16 عموداً تم وصلها مع الدعائم بواسطة الأقواس، وقد تم عمل هذه المرحلة الإنشائية لحمل السقف الذي يغطي المسافة بين القبة وبين الجدار الخارجي الذي يمثل المرحلة الثالثة من المخطط الهندسي.
المرحلة الثالثة:
وهي تتكون من ثمانية جدران حجرية، تم تنظيمها على شكل ثماني خارجي يحيط بالمراحل السابقة، ويبلغ طول ضلع الثماني هذا 20.60م وتبلغ سماكة الجدار 1.30م بينما يبلغ ارتفاعه 9.5م وقد تم فتح أربع بوابات رئيسية ومحورية في أربعة جدران متقابلة تواجه الجهات الأربع، بينما تم فتح خمس نوافذ في كل جدار من الجدران الثمانية، وبهذا يكون مجموع النوافذ أربعين نافذة بالإضافة إلى الأبواب الرئيسية الأربعة.
المرحلة الرابعة:
وكانت المرحلة الختامية في مجال الإنشاء المعماري، وهي إقامة السقف الخشبي فوق المساحة الواصلة بين الجدران الخارجية حتى عنق القبة المركزية بحيث يستند على الأعمدة المتوسطة التي تتكون منها المرحلة الثانية، ويتكون السقف من الجسور الضخمة والعوارض الخشبية المسطحة، وبهذا تم تحديد المخطط الأرضي ومجسم البناء المعماري بحيث كانت وظيفة الدعائم والأعمدة والجدران لتحديد أبعاد المخطط وشكله الهندسي، بينما تم اعتماد بناء القبة والأقواس والجدران لتقوم بوظيفة حمل السقف الذي يغطي كافة المساحات حول الصخرة المشرفة بشكل دقيق ومحكم، ولعل هذا الأسلوب يذكرنا بإقامة خيمة أو صيوان بأسلوب هندسي رفيع، لقد تحدد في بناء قبة الصخرة ضبط كافة الأقسام والوحدات والعناصر المعمارية بشكل دقيق جداً، وظهرت لنا جميع النسب الهندسية متماثلة ودقيقة تدل على مهارة هندسية متناهية وذوق هندسي بديع.
إن الأسلوب الهندسي لمخطط بناء قبة الصخرة يرتبط بأصول هندسية عربية الجذور منذ الفترة السابقة للإسلام، ولعل المباني الثمانية الشكل التي ظهرت خلال القرنين الرابع والسادس الميلادي تؤكد أن بلاد الشام بصورة عامة، وإقليم فلسطين بصورة خاصة قد مارست هذا الأسلوب، وخاصة في المباني ذات الأهمية البالغة، مثل: كنيسة المهد القديمة، وكنيسة القيامة، وكنيسة الصعود، وكنيسة هبة الله في جبال جرزيم، وكاتدرائية بصرى في منطقة حوران، فهي تؤكد الجذور العربية لهذا المخطط الثماني.
ومن خلال الدراسات والمخططات ندرك ماهية الدور الحقيقي للجهود العربية التي انتشرت في بلاد الشام والتي أطلق عليها الغربيون اسم «العمارة البيزنطية في سورية و فلسطين» متجاهلين ارتباطها الوثيق بالبناء العربي الذي ازدهر خلال الفترة البيزنطية منذ فترة حكم الامبراطور قسطنطين سنة 324م حتى فترة حكم الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 691 عندما قرر هذا الخليفة تعريب الدولة وإعادة الاعتبارات والأصول العربية الأصلية، ومن خلال هذا يبدو لنا أن الشكل الثماني في بناء قبة الصخرة يمت لأسلوباً معمارياً مناسباً ينسجم مع طبيعة المكان الذي أقيم الصرح فوقه.
إن العلاقة الهندسية للمباني الدينية التي ظهرت قبل الإسلام لم تكن من حيث التصميم الهندسي أو العناصر المعمارية مطابقة لما هو في مخطط قبة الصخرة، وإنما من حيث تحديد الفكرة وتنفيذها هندسياً كما هو الحال في بناء قبة الصخرة،حتى أن معظم تلك المباني لم تبق على حالها، فقد طرأ عليها كثير من التعديلات، ولعل أبناء بلاد الشلام قد أسهموا في رفد العمارة البيزنطية بأسالبيه المعمارية التي استمر التداول فيها في الوسط العربي منذ القرن الرابع الميلادي / 324م وحتى القرن السادس الميلادي، وفي عام 196م وخلال حكم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان تم تكليف المهندسين رجاء بن حياة الكندي ويزيد بن سلام، وهذا ما يؤكد عروبة المهندسين المشار إليهما.
لقد كان عبد الملك بن مروان أول خليفة عربي مسلم يقرر العودة إلى الجذور والأصول العربية ليس في مجال العمارة فحسب، بل في مجالات التعريب للدواوين، وفي اعتماد أشكال الحروف العربية و إصدار النقود العربية والإسلامية باللغة والحروف العربية وإنهاء كل ما هو خارج عن طبيعة العروبة والإسلام.
لقد سعى عبد الملك أن يكون عربياً مسلماً بكل المفاهيم والتقاليد العربية في مخطط بناء قبة الصخرة المشرفة بالقدس، وهذا يؤكد اهتمامه بالأصول العربية الأصيلة التي كانت مستعملة في بلاد الشام في الفترات السابقة، ولم يكن لدى مهندسي العالم البارعين إلا الاعتراف بهذا الإبداع المثالي في التناسق والجمال الذي ليس له مثيل في الدنيا، ومن أشهر هؤلاء المهندسين:هايتر لويس، الذي قال: «إن بناء قبة الصخرة المشرفة في القدس هي أجمل المباني التي خلدها التاريخ»، كما ذكرها ماكس فان برشم: «لعل عظمتها وجمالها يعودان لما نشاهده في مخططها من البساطة والتنسيق، حقاً إنها مفخرة العمارة الإسلامية»، هذا وأشاد غوستاف لوبون المؤرخ الفرنسي المشهور بقوله: «إن بناء قبة الصخرة أعظم بناء يستوقف الناظر، وأن جمالها وروعتها لا يصلان إلى خيال بني البشر»، أما العلامة كرزويل فذكر أن لمخطط بناء قبة الصخرة خصوصية نادرة في تاريخ العمارة الإسلامية، فقد أذهلت كل من حاول دراستها من حيث فخامتها وسحرها وتناسق أقسامها ودقة النسب الهندسية فيها.
واستذكر هنا الزميل المرحوم الدكتور كامل العسلي الذي قال: «إن القدس الآن هي مركز تحد حضاري وثقافي كبير لنا في وقت يبدور حولها صراع سياسي كبير، فالقدس لم تكن في وقت من الأوقات عاصمة لدولة كبيرة أو مركزاً تجارياً أو زراعياً أو صناعياً، وإنما جعلتها قداستها من أعظم المدن وأعرقها في التاريخ، وأن الآثار والفنون الإسلامية فيها وخاصة بناء قبة الصخرة من أجمل وأشهر المباني في العالم».
ولا شك أن أهميتها تكمن في أنها أقدم أثر قائم في العمارة الإسلامية كلها، كما أنها تؤكد اعتزاز العرب بجذورهم التاريخية وتدل على اهتمام المسلمين بها وتكريمها بعد أن كرمها الله عز وجل وجعل منها المكان الذي تلتقي فيه الأرض مع السماء، فلقد كانت مهبط الوحي ومدينة الأنبياء والقديسين والصحابة الأطهار، كما كانت مستقراً للكثير من الملوك والخلفاء والأمراء ورجال الدين والعلماء، وبهذا يكون بناء قبة الصخرة هذا الصرح المبارك هدية عربية إسلامية لتاريخ الحضارة الإسلامية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
أما أساليب الفنون والزخارف الإسلامية فيها فقد كانت تنطوي على النظرة الإسلامية المجردة التي وضعت حداً للفنون القديمة ومعالمها الوثنية، وأظهرت الفنون الإسلامية من خلال لوحات الفسيفساء الجدارية بأسلوب فلسفي هادى، وقد اعترف علماء الغرب بأنه فن عربي أصيل، ولهذا أطلقوا عليه اسم فن الأرابسك، ولعل هذا الموضوع يحتاج إلى بحث آخر مستقل.
[center]